كيف تتذكر أحلامك (مراجعة)

إن الحلم صوت الإله، وهو تيه الشارد، وصاحب المحزون، وخبل العاشق، وجهاد الثائر. وهو كذلك، في أصله، فراغ أبيض كبير يبحث الإنسان بداخله عن صورته الأولى. 
واﻷحلام كمتاهة، كلما أردت الفكاك منها أجابتْكَ بجدار جديد. وبعد لأي ومثابرة تنهكك الممرات، ويصيبك الدوار، فلا تتذكر منها شيئًا، وتعود أدراجك تجر أذيال الخيبة وفي قلبك شيء غامض منها. شذراتُ صورٍ يعتريها غبارُ سفر طويل من محطة الخيال إلى عالم الواقع. ذلك الجدار الهش الذي يرسمه البالغون بين الحقيقة وأوهام الأحلام يتحطم عند أول محاولة إنسانية جادة لتعريفها؛ فما اتفق البشر قط على ما هو جوهري أو أبدي، وتصارعتْ "الحقائق" فيما بينها بشكل يوحي بعجز الإنسان عن إدراكها. يبقى الأطفال وحدهم ذلك الجسر المذهل بين العالمين؛ حيث لا يجدون غضاضة في جمع المتضادات. ربما فطن الأطفال لما عجز معظم الكبار عن إحاطته.
وفي الأحلام معيّةٌ، ورفقةٌ ممتدة: أشخاصٌ اندثروا أو أفكارٌ تتدفق، أو كما يصدف نادرًا، روحٌ من الكون. والصحبة هي أمان البشر التي بدونها تَتقاذفهم رياح الريبة والذعر.
وبين الحالم وحلمه علاقة قدسية، لا تدنسها الآراء؛ فلا شاهد على الحلم إلا صاحبه، ويلزم مُصدِّقوه إيمانًا كاملًا براويه، والحلم بهذا الشكل هو إرث البشرية من النبوة. إن الرؤى هي تلك اللذة المحرمة في مناطحة الأنبياء، والذوبان في عالم الخوارق، والتماس خصلة من الذات الإلهية. 
والحالمون طوائفٌ، منهم الراديكالي الذي يريد أن يوّلد حلمَه -على صورته الخيالية- إلى أرض الواقع مهما كلف ذلك من عرق أو دم، ومنهم من يرضى بالتأويل بديلًا، ويعتبرون رؤاهم مواراة لمعنى أكثر واقعية. والحياة نسيجها هزيل لا يتحمل الأحلام، فتتمزق تحت وطأتها عند الراديكاليين، وتُمَطُّ عن آخر واقعها عند المأولين.
ويكون الحلم تارةً كتمشية مديدة، بلا وجهة ظاهرة، وبغتة يداهمك المعنى، فتنزلق إليه انزلاقًا بغريزتك الإنسانية؛ فنحن كائنات تبحث عن المعنى وتلتهمه عند كل منعطف. ولا أدل على ذلك من اتفاق ضدّين -كـ"ابن عربي" و "فرويد"- على أن للأحلام رمزية ومعنى أكبر من ظاهرها، وإن أرجعه ابن عربي إلى حقائق الكون المجردة لمن يعبر أحلامه بروح متقدة، وأرجعه "فرويد" إلى اللاوعي الذي يتحكم في حياتنا رغما عنا.
والوعي عند "جان بول سارتر" يربطه بالأحلام علاقة افتتان. والافتتان هو تلك المساومة بين الرغبة والإرادة عندما تلتهم الأولى جارتها؛ فنحن عندما نفقد إرادتنا نتماهى وما سلبنا إياها، ثم نفتتن به؛ لتبتلع مشاعر الافتتان إحساسنا بالعجز. ولا يكون الفكاك من رغباتنا تلك إلا بألم مفجع! فالأحلام تجردنا من قلق إرادة وجودنا الحرة، فنصبح فيها موضوعات لا حكم لنا عليها، وبلا مسؤولية تجاه أفعال تثقل كاهلنا، ومهما كان الألم فهو لحظي عابر لا عواقب نفسية له، ولا امتداد يمس شخوصنا.
ماذا لو أن الأحلام ذاكرة متحررة من الواقع ومن ذكرياتنا التي ننسجها؟ بعضها يختمر فينْضج، وبعضها يتخثّر فيتفتّتْ. ولا يتبقى بين أيدينا إلا الركام نرويه! نملأ أفواهنا بأقاصيص كما نستعيدها بلا تفنيد أو شك، لا ضامن لصدقها، لكنها تخلق هوياتنا.
أي رباط مقدس ذاك الذي يربط الإنسان بأحلامه؟ وكيف يتذكرها؟!


غلافٌ فاتن!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حبيبتي تنهض من نومها (مقتطفات)

الطفل الذي بقلبي