الطفل الذي بقلبي

 هناك طفلٌ صغيرٌ يربضُ في ركنٍ قصيٍّ من قلبي، ينتظرُ حظَّهُ من الحياة بالرغم من كل شيء. يريد أن يتمعن العالم، أن يتأمله بروية وأن يتوقف عقله عن الركض. يريد أن يقطتف ثمار المعرفة ثمرة ثمرة، غير عابئٍ أيها محرم وأيها مستباح. يراقب حركة الكون الدؤوبة، عن كثب، في ذهول وافتتان. يعيد اكتشاف نفسه والعالم يوميا بعين شغوفة تتلذذ أكثر الأشياء عاديةً، وأكثرها تكرارًا:  رائحة الخشب، ملمس الورق، ضحك القلوب، تبسم العيون، نظرات المحبين، نقاشات العصافير، وشوشة الأنهار، غناء الرياح، تلوّن السماء، توتر السحاب المتهادي محمّلًا بالخير. حتى القمر والشمس، والليل والنهار؛ لأنه يدرك أن الجمال يقطن قلبه لا الأشياء، وأن الجمال خجول يحتاج إلى صبر حتى يعرب عن نفسه. 

طفلٌ يريد أن يبتلع فتنةَ الحياةِ بعد أن يلوكها على مهل، لتنسيه وجومَ صاحبِه الدائم. أن يسند وجنته إلى كف الوجود الحنونة، فإذا اطمئن، اقتات حكايات الجدات السحرية، ورشف القصائد والملاحم منذ جلجامش وحتى راسكلينكوف، وسامر تماثيل الرخام والبازلت، وتماهى مع ضربات الفرشاة بين يدي الآلهة. فهو هكذا كالأساطير؛ يصعب تصديقه لكن وجوده أزلي وطاغ.

يكتب حياته بيمينه، ويرسم قدره بريشته، ويدعو أمانيه بقيثارته، ويرقص ويرقص -حتى في نومه- ﻷنه يدرك أن الرقص سرُ الحياة!


Nighthawks by Edward Hopper


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حبيبتي تنهض من نومها (مقتطفات)

كيف تتذكر أحلامك (مراجعة)